يُتيح استكشاف الأفكار اليابانية في الإدارة الإستراتيجية، الغوص داخل عالم من الأساليب والتقنيات الأصيلة في هذا التخصص؛ حيث دائمًا ما ترسخ مكانتها كأدوات نموذجية وناجزة.
وعلى مر العقود، تحظى هذه الأفكار اليابانية في الإدارة الإستراتيجية بشهرة واسعة تتجاوز حدود اليابان، لتصبح قبلة لرواد الأعمال الناشئين الباحثين عن التميز والارتقاء بأداء مؤسساتهم.
وتكمن ميزة أساسية للنموذج الإداري الياباني في تركيزه على العنصر البشري كمحرك رئيس للنجاح، فمن خلال إيمان راسخ بأهمية المشاركة الفعالة والتعاون الوثيق بين جميع أعضاء الفريق في الشركة أو المؤسسة، تُشجع هذه الإستراتيجيات بشكلٍ كبير على توفير بيئة عمل إيجابية تحفز الإبداع وتعزز الإنتاجية.
وتُعد “اللامركزية” من السمات المميزة للإدارة اليابانية؛ حيث تمنح الصلاحيات ومسؤولية اتخاذ القرارات بشكل مُتدرج لجميع المستويات، ما يتيح إنجاز المهام بكفاءة وسرعة أكبر.
ولم تغفل هذه الاستراتيجيات عن أهمية التحسين المستمر، فمن خلال التركيز على الجودة والسعي الدائم للتطوير، تُساهم في ضمان استدامة النجاح على المدى الطويل.
الفلسفة اليابانية في الإدارة الإستراتيجية
يُمثل التصنيع الرشيق فلسفة إدارية تهدف في الأساس إلى تحسين الكفاءة وخفض التكاليف من خلال القضاء على المُخلفات، وتُشكّل “مودا ومورا وموري” ثلاثة مصطلحات تأتي ضمن الاستراتيجيات اليابانية في الإدارة، تُمثل أهم أنواع المخلفات التي تعيق تحقيق الإنتاج الأمثل.
في بادئ الأمر، تُشير “مودا” إلى أي نشاط لا يُضيف قيمة للمنتج أو الخدمة، وتشمل مُخلفات شائعة مثل: الإنتاج الزائد والانتظار والزيادة في المخزون والمعالجة غير الضرورية والعيوب.
ويُعد القضاء على “مودا” هدفًا رئيسيًا للتصنيع الرشيق؛ حيث يُساهم في تحقيق وفورات كبيرة في التكاليف ورفع مستوى الكفاءة.
أما بالنسبة لمصطلح “مورا” فهو يعني عدم التناسق أو التذبذب في عملية الإنتاج، ويشمل أعباء العمل غير المتساوية والطلب غير المتوقع واختلافات عمليات الإنتاج.
وبالتأكيد يُؤدي “مورا” إلى انخفاض الكفاءة من خلال زيادة الإنتاج الزائد وتراكم المخزون وأوقات الانتظار الطويلة.
فيما يُركز تقليل “مورا” على إنشاء عملية إنتاج أكثر اتساقًا قادرة على الاستجابة للتغيرات في الطلب والقضاء على المخلفات.
ويتعلق مصطلح “مُوري” بالإرهاق أو الضغط المفرط على العمال أو المعدات، ويشمل زيادة تحميل الآلات وتكليف العمال بمهام تتجاوز قدراتهم وتحديد أهداف إنتاج غير واقعية.
ويؤدي “موري” إلى انخفاض الجودة وزيادة الأخطاء ومشاكل السلامة، كما يُركز تقليله على إيجاد طرق لموازنة أعباء العمل وتحسين عمليات الإنتاج لتقليل الضغط على العمال والمعدات.
الـ”مودا”
“مودا”، مصطلح ياباني يُشير إلى “الهدر”، ويُمثل عقبة رئيسية أمام تحقيق الكفاءة في رحلة التصنيع الرشيق، ويشمل هذا المصطلح أي نشاط أو عملية لا تُضيف قيمة للمنتج النهائي أو الخدمة، مستهلكًا الوقت والموارد دون فائدة تُذكر.
ويُولي التصنيع الرشيق اهتمامًا بالغًا بالقضاء على مصطلح “مودا”، سعيًا وراء تحسين الإنتاجية وكفاءة العمليات، ويأخذ أشكالًا متعددة، منها:
- الإنتاج الزائد: تصنيع كميات تفوق الطلب، ما يُؤدي إلى تراكم المخزون وارتفاع التكاليف.
- الانتظار: فترات التوقف غير الضرورية بين مراحل الإنتاج، مُسببة ضياع الوقت وتراجع الإنتاجية.
- النقل غير الضروري: حركة المنتجات والمواد بين محطات العمل دون داع، مستهلكة الوقت والموارد.
- المعالجة الزائدة: إنجاز خطوات غير ضرورية في تصنيع المنتج، مضيفة التعقيد والتكلفة.
- المخزون الزائد: تراكم المواد غير المُستخدمة فورًا، مستهلكة رأس المال ومساحة التخزين.
- الحركة غير الضرورية: حركة العمال أو الآلات دون فائدة تذكر، مسببة هدرًا للوقت والتكلفة.
- العيوب: الأخطاء في عملية الإنتاج، متطلبة إعادة العمل أو الإتلاف، ما يُؤدي إلى ارتفاع التكاليف.
ويُؤدي القضاء على مصطلح “مودا” بجميع أشكاله إلى تحسينات هائلة في كفاءة الإنتاج، فعلى سبيل المثال، يساعد تقليل الإنتاج الزائد على خفض تكاليف التخزين.
بينما يساهم تقليل أوقات الانتظار في تسريع العملية الإنتاجية، وبلا شك تتيح محاربة الـ”مودا” للمصنعين بناء منظومة عمل رشيقة وذات كفاءة تقدم منتجات وخدمات عالية الجودة بتكلفة مُنخفضة.
الـ”موري”
يشير مصطلح الـ “موري” إلى الإرهاق الزائد أو الضغط المفرط على العمال أو المعدات في سياق التصنيع الرشيق، وينشأ هذا الضغط من عوامل متعددة، كوضع أهداف إنتاج غير واقعية، أو تكليف العمال بمهام تتجاوز قدراتهم، أو تحميل الآلات فوق طاقتها.
يؤثر هذا المصطلح سلبًا على كفاءة الإنتاج، مسببًا انخفاض الجودة وزيادة الأخطاء، بل وربما مشكلات تتعلق بالسلامة، كما يُؤدي إلى ارتفاع التكاليف بسبب الحاجة إلى إصلاح أو استبدال المعدات، فضلًا عن ازدياد معدل دوران الموظفين نتيجة أعباء العمل المفرطة والضغط.
ويُمكن التغلب على مصطلح موري من خلال تحسين عمليات الإنتاج وتوزيع أعباء العمل بشكل متوازن، ما يقلل الضغط على العمال والمعدات، وتشمل أساليب التخفيف من الموري:
- إعادة تقييم أهداف الإنتاج: التأكد من واقعية الأهداف وملاءمتها لقدرات العمال والمعدات.
- إعادة توزيع أعباء العمل: توزيع المهام بشكل متساو بين العمال، وتكليف كل فرد بمهام تتناسب مع قدراته.
- تنفيذ تحسينات على العمليات: تقليل الحاجة إلى التدخل اليدوي من خلال أتمتة بعض المهام أو إعادة تصميم العمليات.
- توفير بيئة عمل آمنة: توفير بيئة عمل مناسبة تقلل من مخاطر الإصابات والتعرض للضغط.
الـ”مورا”
يعبر مصطلح “مورا” عن عدم التناسق أو التباين في عملية الإنتاج بسياق التصنيع الرشيق، وينشأ هذا التباين من عوامل متعددة، مثل:
- تقلبات الطلب: تغيرات غير متوقعة في حجم الطلب على المنتجات.
- اضطرابات سلسلة التوريد: انقطاعات أو تأخيرات في توريد المواد الخام أو المكونات.
- عدم تناسق عمليات الإنتاج: اختلاف زمن الإنتاج بين مختلف مراحل العملية.
ويؤثر هذا المصطلح، سلبًا على كفاءة الإنتاج، مُسببًا انخفاض الجودة وزيادة الأخطاء، إضافة إلى زيادة زمن الإنتاج، كما يؤدي إلى فائض أو نقص في المخزون، ما يزيد من التكلفة وتعقيد العملية الإنتاجية.
ويمكن التغلب على الـ”مورا” من خلال تحقيق التوازن في عمليات الإنتاج والقضاء على عدم التناسق فيها، وتشمل أساليب التخفيف منه:
- تنفيذ عمليات إنتاج تعتمد على الطلب: ربط حجم الإنتاج بحجم الطلب الفعلي لتجنب الإنتاج الزائد أو نقص المخزون.
- تحسين جدولة الإنتاج: وضع خطة زمنية منظمة تحدد زمن إنجاز كل مرحلة من مراحل الإنتاج.
- تقليل التباين في سلسلة التوريد: البحث عن بدائل توريد مناسبة؛ لضمان استقرار توريد المواد الخام والمكونات.
القضاء على “مودا” و”مورا” و”موري”
تسعى العديد من الشركات في مختلف القطاعات إلى الاستفادة من الاستراتيجيات اليابانية في الإدارة؛ لتعزيز كفاءتها الإنتاجية وتحقيق أقصى استفادة من مواردها.
ولهذا، يبرز دور مبادئ وأدوات التصنيع الرشيق في القضاء على “مُودا” و”مورا” و”موري”، وهي أنواع الهدر الثلاثة التي تُعيق الإنتاجية، وتُكبد الشركات خسائر فادحة.
-
خرائط سلسلة القيمة
تُقدم خرائط سلسلة القيمة أداة فعّالة لرسم خريطة شاملة لمسار عملية الإنتاج، بدءًا من المواد الخام وصولًا إلى المنتج النهائي.
وتتمكن الشركات بواسطة هذه الخرائط، من تحديد مجالات الهدر بدقة، مثل: فترات الانتظار غير الضرورية، أو عمليات النقل الزائدة، أو الإنتاج الزائد عن الحاجة. وبناءً على ذلك، تنفذ تحسينات مستهدفة لتبسيط العملية وتقليل الهدر.
-
نظام 5S
يُعد نظام 5S فلسفة متكاملة لتنظيم مساحة العمل وتوحيد العمليات، ما يساهم بشكل كبير في القضاء على الهدر، ويتضمن هذا النظام خمس مراحل: الفرز، والترتيب، والتنظيف، والتوحيد، والمواظبة. وتؤدي هذه المراحل إلى خلق بيئة عمل أكثر كفاءة وإنتاجية، وتُعزز روح الفريق والمسؤولية بين الموظفين.
-
فعاليات “كايزن”
تُشكل فعاليات كايزن نهجًا ممنهجًا لحل المشكلات وتحسين العمليات، من خلال تجميع فرق عمل متعددة التخصصات للتركيز على مجال مُعين من عملية الإنتاج. وتساهم هذه الفعاليات في تحديد جذور الهدر وتطوير حلول مبتكرة للقضاء عليه، وتؤدي إلى تحسينات كبيرة في الكفاءة والإنتاجية على المدى القصير.
-
التحسين المُستمر
تُمثل فلسفة “التحسين المستمر” ركيزة أساسية في رحلة القضاء على “مودا” و”مورا” و”موري”، وتؤكد على أهمية إجراء تحسينات تدريجية مستمرة على عملية الإنتاج، بدلًا من التركيز على التغييرات الضخمة المُفاجئة، من خلال السعي المستمر لتحديد الهدر والقضاء عليه. وتخلق تلك الفلسفة ثقافة من التحسين المستمر تساهم في تحقيق النجاح على المدى الطويل.
بشكلٍ عام، إن تطبيق مبادئ وأدوات التصنيع الرشيق، مثل: خرائط سلسلة القيمة ونظام 5S وفعاليات “كايزن” وفلسفة التحسين المستمر، يُمكن الشركات من القضاء على “مودا” و”مورا” و”موري”، وتحقيق مستويات عالية من الكفاءة الإنتاجية، ما يؤدي بدوره إلى زيادة الإنتاجية وتحسين جودة المنتجات والخدمات، وتعزيز قدرة الشركات على المنافسة في السوق.
ختامًا، تُقدم الفلسفة اليابانية في الإدارة الإستراتيجية نموذجًا فريدًا أثبت فاعليته عبر عقود من الزمن؛ حيث تركز على مبادئ أساسية مثل: احترام الفرد، والعمل الجماعي، والتحسين المستمر، والتركيز على العملاء.
وتُتيح هذه المبادئ للشركات تحقيق مستويات عالية من الكفاءة والإنتاجية، مّا يُؤدي في النهاية إلى تحسين جودة المنتجات والخدمات وزيادة قدرتها على المنافسة بالسوق.
اقرأ أيضًا من رواد الأعمال:
أبعاد التخطيط الاستراتيجي.. خطواتك نحو التطور العملي
التخطيط الاستراتيجي في 2024.. الآليات والنتائج
وظائف الإدارة الخمس.. ماذا تعرف عن نموذج هنري فايول؟